ثمة اتجاه في العالم العربي يميل إلى حرف تركيزنا، وتشتيت انتباهنا، عن مصادر التهديد الرئيسة لأمن الدول العربية فرادى والأمن القومي العربي جميعاً. ولكن ما يطمئن بعض الشيء أن هناك من أدرك خطورة تنامي هذا الاتجاه، وحذر منه. فمثلاً، في أعقاب التفجيرات الهائلة التي ضربت بغداد، في 25 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، فيما بات يُعرف بالأحد الدامي ـ وما أكثر أيام العراق الدامية منذ نكبته في 2003 ـ سارع أنصار هذا الاتجاه باتهام جهات ودول وجماعات وميليشيات عدة بالمسؤولية عن هذه الهجمات الإرهابية من دون الإشارة إلى "المتهم الأول والمتمثل في قوات الاحتلال الأمريكي.
وبالمنطق نفسه، فإن هذا الاتجاه، والذي يجد دعماً له في اتجاه رائج في الأوساط الإعلامية والبحثية والسياسية الغربية، أصبح مهووساً بـ "فوبيا" النووي الإيراني، ويتجاهل "التهديد رقم واحد لأمن الشرق الأوسط جميعاً"، بحسب محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمتمثل في "ترسانة الأسلحة النووية الإسرائيلية"، والتي يقدر الخبراء حجمها ما بين 200 إلى 500 قنبلة نووية متنوعة الحجم، وتقدرها جامعة الدول العربية بـ 300 قنبلة، دون الحديث عن وسائل إيصالها من صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، ما يضع كل الدول العربية في مدى أي هجوم إسرائيلي. وقد قرر جون ستاينباك John Steinback، وهو خبير مرموق في الطاقة النووية، في كلمته أمام مؤتمر الطاقة الـ14 الذي عقده مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في 24-28 نوفمبر 2008، أن البرنامج النووي الإسرائيلي في بعض أو كثير من جوانبه أكثر تقدماً من نظيره الأمريكي.
ولهذا، ترى طائفة من الباحثين والخبراء المهمومين بالأمن القومي العربي أنه لا ينبغي أن يحرف التركيز الغربي على البرنامج النووي الإيراني ـ والذي لا تزال عسكرته تقع في خانة "المحتمل"، طبقاً لأكثر التقديرات تشاؤماً، و"لا يوجد دليل على تحول أنشطة إيران النووية إلى المجال العسكري"، طبقاً للبرادعي في 4/10/2009 ـ تركيزنا عن مصدر التهديد الأكبر والأخطر للأمنيين القطري والقومي في العالم العربي. ولعلنا نتذكر أن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، هدّد باستخدام السلاح النووي ضد قطاع غزة. كما نتذكر تحذير غولدا مائير، رئيسة الوزراء السابقة، أن إسرائيل كانت تعتزم استخدام السلاح النووي في حرب 1973. بعبارة محددة، فالأسلحة النووية الإسرائيلية ليست بغرض الردع أو التخويف فقط، وإنما بغرض الاستخدام في حالة الضرورة أيضاً.
وثمة تطورات عدة حصلت مؤخرا تصب في هذا الاتجاه الصحيح. وقد تمثل التطور الأول، والأهم، في تبني الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأول مرة منذ تأسيسها، ومنذ ما يقرب من عقدين من المحاولات العربية، قراراً (GC53/RES/17) بخصوص المقدرات النووية الإسرائيلية. ففي مؤتمرها العام الـ53 (فيينا: 14-18 سبتمبر/أيلول الماضي)، اعتمدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإن بأغلبية بسيطة (49 مقابل 45)، قراراً مهماً للغاية، حتى وإن كان غير ملزم، يطالب إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار، وأن تُخضع جميع منشآتها النووية لمراقبة الوكالة الشاملة. وقد عبر القرار عن قلق الوكالة إزاء التهديد الذي يمثله الانتشار النووي، وبخاصة قدرات إسرائيل النووية، على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
وقبل يوم واحد من التصويت على القرار الفائت، تبنى مؤتمر الوكالة بالإجماع تقريباً (103 مقابل لا شيء، مع امتناع 4 دول عن التصويت) مشروع قرار، تقدمت به مصر، بخصوص تطبيق نظام ضمانات النووية في الشرق الأوسط (GC53/RES/16). يطالب هذا القرار، في لغةٍ أقوى من لغة القرار في الأعوام السابقة، جميع دول المنطقة (يقصد إسرائيل) بالانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار، وجميع الاتفاقيات الأخرى ذات الصلة، وأن تفي بالتزاماتها المتعلقة بإخضاع منشآتها لمنظومة الضمانات الشاملة للوكالة الدولية، وأن تتخذ خطوات عملية لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وألا تنخرط في عمليات تطوير أو إنتاج أو اختبار أسلحة نووية. وفي الحقيقة، فإن مضمون هذا القرار يدحض المنطق الإسرائيلي المقلوب الذي يروج لأولوية تحقيق السلام الشامل فى الشرق الأوسط كشرط مسبق لمناقشة موضوع إنشاء المنطقة الخالية من السلام النووي، كما كررت ميراف زفاري أوديز، مسؤولة سياسات الحد من التسلح في وكالة الطاقة الإسرائيلية، على هامش مؤتمر دولي حول نزع السلاح النووي، عقد بالقاهرة، في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي.
وقبل التئام قمة مجلس الأمن الدولي الاستثنائية، في 24 سبتمبر/أيلول المنصرم، لبحث منع انتشار الأسلحة النووية ونزعها من العالم، طالبت مصر ـ فى رسالة وجهها وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، إلى وزراء خارجية الدول الأعضاء ـ بإشراف دولي على البرنامج النووي الإسرائيلي، وإصدار قرار ملزم ينص على إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية. وفي توضيحه للرسالة، طالب المتحدث باسم الخارجية المصرية مجلس الأمن أن يفرض معاهدة منع الانتشار النووي على المستوى العالمي، يقصد ضم إسرائيل إليها، وقيّم الموقف الدولي تجاه الدول الأعضاء ونظيراتها غير الأعضاء في المعاهدة بـ"الازدواجية"، وأن من شأنه القضاء على "مصداقية" المعاهدة.
وقد وجدت هذه التطورات قوة دفع من جانب تركيا مؤخراً، سواء لجهة اتهام الدول الغربية بعدم الموضوعية أو الإنصاف في التعامل مع مسألة عدم الانتشار النووي في المنطقة (الملف النووي الإيراني نموذجاً)، وتأييد حق الدول في حيازة طاقة نووية سلمية، ودعوة الدول المعارضة للبرنامج الإيراني، وهي نفسها التي تمتلك أسلحة نووية، إلى المبادرة أولاً بالتخلي عن هذه الأسلحة، و?أن يكونوا قدوة في ذلك?، وتجديد الدعوة إلى تأسيس منطقة خالية تماماً من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط.
وفي اجتماع اللجنة الأولى للجمعية العامة المعنية بنزع السلاح والأمن الدولي، في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، طالبت دولة الإمارات العربية المتحدة المجتمع الدولي بإتباع سلوك أكثر صرامة تجاه احتكار إسرائيل لامتلاك الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، مؤكدة أن هذه المسألة تشجع دول المنطقة على السعي إلى اقتناء هذا النوع من أسلحة الدمار الشامل، وأنها السبب الرئيس لجعل منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق توتراً في العالم. ودعا وفد الدولة إلى الأمم المتحدة إلى إعادة تأكيد القرارات الدولية ذات الصلة بـ"القدرات النووية الإسرائيلية"، وفي مقدمتها قرار مجلس الأمن رقم 487 لعام 1981، والقرار الخاص بالشرق الأوسط الصادر عن مؤتمر مراجعة معاهدة عدم الانتشار لعام 1995، والقرار (GC53/RES/17) الذي اعتمدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخراً. كما طالب الوفد الإماراتي بضرورة ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على إسرائيل لإجبارها على الانضمام الفوري وغير المشروط إلى معاهدة عدم الانتشار، ومطالبة الحكومة الإسرائيلية بالتعاون التام مع الوكالة في فحص ومراقبة مرافقها وأنشطتها النووية، وبالتوقف الفوري عن إنتاج وتكديس أية مواد انشطارية أو آليات ومعدات أخرى تستخدم في صناعة الأسلحة النووية، وبالتقيد بوقف جميع تجاربها النووية وتفكيك ترسانتها الذرية وتحويلها للأغراض المدنية.
وثمة ملاحظات أساسية عدّة على هذه التطورات:
أولها أن اعتراض معظم الدول الغربية أو امتناع بعضها عن التصويت على قراري الوكالة الدولية للطاقة الذرية (GC53/RES/16, 17) يعبران عن عدم الموضوعية أو غياب الإنصاف في تعاملها مع قضية عدم الانتشار، كما أشار رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أكثر من مرة الشهر الماضي، وثمة من يرى في ذلك ازدواجية في المعايير، كما وضح الناطق باسم الخارجية المصرية في سبتمبر 2009، أو ربما كانت دليلاً على "النفاق الغربي والانحياز الأعمى للكيان الصهيوني"، كما قررت "الخليج"، في افتتاحيتها بتاريخ 21 سبتمبر 2009، أو ربما هذا كله. ولعل ذلك يفسر تحدي إسرائيل للقرارين بسفور بالغ، جازمةً أن "الدول المؤيدة للقرارين لن تستفيد شيئاً" و"أن "إسرائيل" غير ملزمة بالتنفيذ.
ثانيها أن ثمة اتفاقاً واسعاً بين الخبراء والدارسين أنه لن يتم فرض أي نوع من الرقابة على إسرائيل بخصوص مرافقها النووية، نتيجة هذين القرارين؛ لأن الإدارة الأمريكية ستحول دون حدوث ذلك، وستستمر داعمة "للاستثنائية النووية الإسرائيلية"، بحسب روجر كوهين (نيويورك تايمز، 15/10/1009). بل إن تقارير إعلامية (واشنطن تايمز، 2/10/2009) أشارت إلى أنّ الرئيس باراك أوباما ـ خلال اجتماعه برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض، في مايو/أيار الماضي ـ جدد التزامه بسياسة الإدارات السابقة بالتستر على البرنامج النووي لإسرائيل، والامتناع عن الضغط عليها للكشف عن ترسانتها النووية، وعدم إلزامها بالتوقيع على معاهدة عدم الانتشار النووي؛ ما يعني تجديد التفاهم السري الموقع بين البلدين عام 1969 في هذا الخصوص.
ثالثها أنه لا يمكن التقليل من الأهمية الرمزية والمعنوية لهذين القرارين على الأقل. فمن ناحية، من المحتمل جداً أن يظل النووي الإسرائيلي على جدول أعمال وكالة الطاقة الذرية لدورات كثيرة مقبلة، بعد أن تم تجاهله لسنوات عديدة. ونتذكر هنا أن كلاً من القرارين اختتما بتوصية مفادها أن يظل الأمر (سواء تعلق بالمقدرات النووية الإسرائيلية أو تطبيق الضمانات النووية في الشرق الأوسط) معروضاً على المؤتمر العام للوكالة حتى بلوغ غايته، وأن يُقدم مدير الوكالة تقريراً عن تنفيذ هذا القرار إلى مؤتمر الوكالة في دورته القادمة. ولا يخفى ما قد يمثله ذلك من ضغط مستمر على إسرائيل وحلفائها، وإبقاء الموضوع مثاراً على المستوى الدولي. كما لا يمكن أن نتجاهل ما قد يترتب على إصدار هذين القرارين مرة بعد أخرى من تأثيرٍ على الرأي العام العالمي، ومن انعكاسات على المجتمع المدني الدولي، فيما يتعلق بكشف رفض إسرائيل للإرادة الدولية والازدواجية الغربية في التعامل مع قضية عدم الانتشار النووي في العالم.
ورابعها أن التطورات الإقليمية التي واكبت صدور قراري الوكالة أو تلتها تبين بجلاء أن الفاعلين الإقليميين، وعلى رأسهم الدول العربية، في سبيلهم إلى الخروج من "الشراك" الغربي المتمثل في إشعال الصراع وتصدير الخوف من البرنامج النووي الإيراني، في الوقت الذي يتم فيه حماية بل واستمرار دعم إسرائيل في تطوير برنامج أسلحتها النووية ووسائل إيصالها.